
في خضم الأزمات السياسية والأمنية المتصاعدة في السودان، برزت تحذيرات جادة من رئيس تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية "تقدم"، الدكتور عبدالله حمدوك، الذي حذر من أن استمرار العنف قد يؤدي إلى تعزيز تواجد "المتشددين في جميع أنحاء السودان". في حديثه لصحيفة "فايننشال تايمز"، أكد الدكتور حمدوك على أن الحل الوحيد لضمان خروج السودان من دوامة العنف والحفاظ على تماسكه هو تشكيل حكومة يقودها مدنيون. كما اتهم الجيش السوداني بإفساد البلاد لأكثر من خمسين عامًا، مؤكدًا أنه لا يمكن تكليف الجيش بمستقبل السودان.
تاريخ العنف والصراع في السودان
لطالما كانت السودان ساحة للصراعات السياسية والاشتباكات المسلحة، حيث يعود تاريخ الصراع الداخلي إلى عقود من الزمن بسبب التدخل العسكري المستمر في الشؤون السياسية. منذ الاستقلال في عام 1956، شهدت البلاد سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أعاقت بناء نظام ديمقراطي مستقر، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
كان الجيش السوداني القوة المهيمنة في الساحة السياسية لفترات طويلة، ولعب دورًا محوريًا في رسم مستقبل البلاد. ومع ذلك، كانت هذه الفترات مرتبطة بموجات من العنف وعدم الاستقرار الداخلي، مما أدى إلى انتشار الفقر والبطالة، وخلق بيئة مناسبة لنمو الأفكار المتطرفة وانتشار الجماعات المسلحة في البلاد.
خطر صعود المتشددين
مع استمرار العنف وانهيار مؤسسات الدولة، يتزايد خطر صعود الجماعات المتشددة. ويشير الخبراء إلى أن الأوضاع الأمنية المضطربة تخلق بيئة خصبة لتجنيد المتطرفين، خاصة في ظل الفراغ الأمني الذي ينجم عن ضعف الدولة. وفقًا لتصريحات الدكتور حمدوك، فإن العنف في السودان قد يعزز من وجود المتشددين في جميع أنحاء البلاد، وهو أمر خطير يهدد الاستقرار الإقليمي وليس فقط الداخلي.
تاريخيًا، يشير التحليل إلى أن الأوضاع المتأزمة والمليئة بالعنف هي الأرض الخصبة لظهور الجماعات المتطرفة. ومع تفاقم الأزمات، يجد الشباب العاطل والمهمش نفسه أمام خيارات محدودة، ويصبح أكثر عرضة للانضمام إلى هذه الجماعات كبديل يتيح لهم الانخراط في الصراعات المسلحة. السودان، الذي يعاني من تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية منذ سنوات، قد يكون عرضة لنفس السيناريوهات التي شهدتها دول أخرى في المنطقة، حيث أصبحت الصراعات الداخلية بوابة لصعود التطرف والإرهاب.
الحل: الحكم المدني
في سياق حديثه، شدد الدكتور عبدالله حمدوك على أن الحل الوحيد للخروج من هذه الأزمة هو تشكيل حكومة مدنية تقود البلاد بعيدًا عن الهيمنة العسكرية. يعتقد حمدوك أن استمرار تدخل الجيش في الشؤون السياسية لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع، مشيرًا إلى أن الجيش كان السبب الرئيسي في إفساد البلاد على مدار الخمسين عامًا الماضية. وأضاف أن الجيش لا يمكن أن يكون القوة التي يُعتمد عليها في تحديد مستقبل السودان.
يعد هذا الموقف امتدادًا لوجهة النظر السائدة بين القوى المدنية والسياسية في السودان، التي ترى أن انتقال السلطة إلى حكومة مدنية هو الحل الأمثل لتحقيق الاستقرار. فالجيش السوداني، الذي قاد عدة انقلابات على مدار العقود الماضية، يعتبره الكثيرون عقبة أمام بناء دولة ديمقراطية تتيح الفرصة لجميع السودانيين للمشاركة في صنع القرار.
الحكومة المدنية، حسب رؤية حمدوك، قادرة على إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية تضمن مشاركة واسعة وتلبي تطلعات الشعب السوداني في السلام والتنمية. كما أن الحكم المدني يمكن أن يكون السبيل الوحيد لاستعادة ثقة المجتمع الدولي الذي ينظر إلى السودان بقلق في ظل تصاعد الصراعات وانهيار النظام السياسي.
التحديات أمام التحول الديمقراطي
رغم أهمية الحل المدني الذي طرحه الدكتور حمدوك، فإن تحقيقه يواجه تحديات كبيرة. أولًا، هناك تركة ثقيلة من الصراعات العسكرية والتدخلات الخارجية، مما يعقد عملية التحول الديمقراطي. ثانيًا، الجيش السوداني لا يزال قوة كبيرة ومؤثرة في المشهد السياسي، ولن يتخلى بسهولة عن دوره الذي اعتاد عليه لعقود.
تتطلب عملية التحول الديمقراطي توافقًا واسعًا بين مختلف القوى السياسية والمدنية، وكذلك دعمًا من المجتمع الدولي. يجب أن تشمل الحلول السياسية ليس فقط إعادة هيكلة النظام السياسي، بل أيضًا تنفيذ إصلاحات اقتصادية واجتماعية شاملة تضمن تخفيف حدة الفقر والبطالة، وهو ما يشكل دافعًا رئيسيًا لاستمرار العنف وتفشي التطرف.
إضافة إلى ذلك، يجب معالجة الأزمات الداخلية في الأقاليم المهمشة مثل دارفور والنيل الأزرق، حيث يعاني السكان من التهميش والفقر منذ سنوات. إن تجاهل هذه المناطق لن يؤدي إلا إلى تعميق الصراع وإطالة أمد الأزمة، مما يجعل من الضروري أن يكون الحل شاملاً ويشمل جميع السودانيين بغض النظر عن خلفياتهم.
دور المجتمع الدوليلا يمكن إغفال الدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع الدولي في دعم التحول المدني في السودان. يجب على الدول الكبرى والمنظمات الدولية دعم الحكومة المدنية المرتقبة ماليًا وسياسيًا لضمان نجاحها. كما يجب أن يتم وضع آليات رقابة ومساءلة لضمان التزام الجيش بعدم التدخل في الشؤون السياسية مستقبلًا، وهو ما يتطلب دعمًا دوليًا قويًا لمثل هذه الآليات.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمجتمع الدولي لعب دور مهم في تقديم المساعدات الاقتصادية والتنموية للسودان، بهدف تخفيف حدة الأزمات التي تؤجج الصراع. دعم التنمية المستدامة وخلق فرص عمل للشباب سيكون له تأثير كبير في الحد من تجنيد الجماعات المتطرفة للشباب السوداني.
في ظل التحذيرات الجادة من تصاعد العنف في السودان وتزايد خطر الجماعات المتشددة، يبقى الحل الوحيد المستدام هو تشكيل حكومة مدنية قوية قادرة على قيادة البلاد نحو الاستقرار والتنمية. كما أن الجيش السوداني يجب أن يبتعد عن الشؤون السياسية ويترك المجال للقوى المدنية لبناء مستقبل أفضل للبلاد. لكن هذا التحول لن يكون سهلاً، ويتطلب توافقًا سياسيًا داخليًا ودعمًا دوليًا لتحقيق الاستقرار وإعادة بناء السودان بعد سنوات طويلة من الصراعات والانقسامات.
تعليقات
إرسال تعليق