تدخل إيران في السودان: دوافع استراتيجية وتداعيات إقليمية

 

تشهد الساحة السودانية تطورات متسارعة في ظل الحرب الأهلية المستمرة بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). في هذا السياق، برزت إيران كلاعب خارجي مؤثر، حيث تشير تقارير إلى أن الجيش السوداني وسلطة بورتسودان قد سمحا بإقامة موقع للإيرانيين على ساحل البحر الأحمر، بهدف زعزعة الاستقرار في المنطقة، مقابل تقديم إمدادات عسكرية تدعم الجيش السوداني في مواجهته مع قوات الدعم السريع. هذا التدخل يثير تساؤلات حول دوافع إيران الاستراتيجية، وتأثيراته على السودان والتوازنات الإقليمية.
دوافع إيران للتدخل في السودان
تسعى إيران إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي في منطقة البحر الأحمر، التي تُعدّ ممرًا حيويًا للتجارة العالمية، حيث يمر عبره 15% من التجارة البحرية العالمية و12% من النفط المنقول بحرًا عبر قناة السويس. السودان، بموقعه الاستراتيجي على الساحل الغربي للبحر الأحمر، يمثل نقطة دخول مثالية لإيران لتوسيع نفوذها في المنطقة. وقد حاولت إيران سابقًا إقامة قاعدة بحرية دائمة في السودان، لكن الطلب قوبل بالرفض من قبل الجيش السوداني، خوفًا من ردود فعل دولية، خاصة من الولايات المتحدة وإسرائيل.
تأتي هذه الخطوة في سياق أوسع لاستراتيجية إيران من خلال دعم الجيش السوداني بطائرات مسيرة من طراز "مهاجر-6" و"أبابيل-3"، تسعى إيران إلى كسب حليف جديد في المنطقة، خاصة بعد تراجع نفوذها في سوريا ولبنان بسبب الضربات الإسرائيلية على وكلائها مثل حماس وحزب الله. هذه الطائرات المسيرة، التي أثبتت فعاليتها في معارك أم درمان وغيرها، غيرت ميزان القوى لصالح الجيش السوداني، مما ساعده على استعادة أراضٍ كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع.
علاوة على ذلك، يُنظر إلى دعم إيران للجيش السوداني كجزء من "دبلوماسية الطائرات المسيرة" التي تستخدمها طهران لتوسيع نفوذها العسكري والاقتصادي. فالسوق العالمي للطائرات المسيرة يُقدر بمليارات الدولارات، وإيران تسعى للاستفادة من تصدير هذه التكنولوجيا لدعم اقتصادها المتعثر. كما أن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع السودان في أكتوبر 2023، بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، فتحت الباب أمام تعاون عسكري واقتصادي أعمق، بما في ذلك تبادل السفراء ومناقشات حول إعادة إعمار السودان.
دور سلطة بورتسودان والجيش السوداني
تشير تقارير إلى أن الجيش السوداني وسلطة بورتسودان قد وافقا على منح إيران موقعًا على ساحل البحر الأحمر، ربما كجزء من صفقة لتأمين الدعم العسكري الإيراني. بورتسودان، التي أصبحت المقر الفعلي للحكومة السودانية بعد انتقال قيادة الجيش من الخرطوم، تُعد مركزًا حيويًا لاستقبال الإمدادات العسكرية. فقد رصدت تقارير تسع رحلات جوية إيرانية بطائرات شحن من طراز "فارس إير قشم" بين ديسمبر 2023 ويوليو 2024، تحمل أسلحة وطائرات مسيرة إلى مطار بورتسودان. هذه الرحلات، التي شملت طائرات تابعة للحرس الثوري الإيراني، تؤكد التنسيق العالي بين طهران والجيش السوداني.
ومع ذلك، يبدو أن الجيش السوداني يتعامل بحذر مع هذا التعاون. فقد رفض البرهان طلبات إيران لإقامة قاعدة بحرية دائمة أو نشر سفينة عسكرية في بورتسودان، خوفًا من استعداء السعودية ومصر والدول الغربية. هذا الحذر يعكس التوازن الدقيق الذي يحاول الجيش السوداني الحفاظ عليه بين استفادته من الدعم الإيراني وتجنب العزلة الدولية التي عانى منها في عهد عمر البشير.
التداعيات الإقليمية
تدخل إيران في السودان يحمل تداعيات كبيرة على التوازنات الإقليمية. أولًا، يثير قلق السعودية، التي تعتبر البحر الأحمر منطقة نفوذ حيوية لأمنها القومي وتجارتها النفطية. الوجود الإيراني في السودان قد يعرقل جهود التهدئة بين طهران والرياض، خاصة أن إيران تستخدم مجال السعودية الجوي لنقل الأسلحة إلى السودان، وهو ما قد يُنظر إليه كاستفزاز. ثانيًا، يفاقم التنافس بين إيران والإمارات، التي تدعم قوات الدعم السريع عبر شحنات أسلحة عبر تشاد، مما يجعل السودان ساحة لصراع بالوكالة بين الطرفين.
ثالثًا، يثير الوجود الإيراني مخاوف إسرائيل، التي ترى فيه تهديدًا مباشرًا لأمنها البحري، خاصة مع دعم إيران للحوثيين في اليمن، الذين يهاجمون السفن التجارية في البحر الأحمر. وأخيرًا، يعقّد التدخل الإيراني جهود الوساطة الدولية لإنهاء الحرب الأهلية، حيث يُنظر إلى إيران كطرف يسعى إلى إطالة أمد الصراع لتعزيز مصالحه الخاصة.
تحديات ومخاطر التدخل الإيراني
على الرغم من الفوائد العسكرية التي يجنيها الجيش السوداني من الدعم الإيراني، إلا أن هذا التعاون يحمل مخاطر كبيرة. أولًا، قد يؤدي إلى عودة العقوبات الأمريكية على السودان، التي كافحت البلاد لرفعها بعد إزالة اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ثانيًا، قد يعزز التدخل الإيراني من نفوذ الإسلاميين داخل الجيش السوداني، مما يثير مخاوف من تحوّل الجيش إلى ميليشيا شبيهة بالحشد الشعبي في العراق، تخدم أجندة طهران. ثالثًا، قد يؤدي الدعم الإيراني إلى تصعيد الصراع مع قوات الدعم السريع، التي بدأت مؤخرًا بشن هجمات بطائرات مسيرة على بورتسودان، مما يزيد من معاناة المدنيين ويعرقل وصول المساعدات الإنسانية.
خاتمة
يمثل التدخل الإيراني في السودان محاولة استراتيجية لتعزيز النفوذ الإيراني في منطقة البحر الأحمر، مستغلةً الحرب الأهلية لدعم الجيش السوداني مقابل موطئ قدم جيوسياسي. ومع ذلك، فإن هذا التدخل يحمل مخاطر كبيرة على السودان، من حيث تعميق الانقسامات الداخلية، وإثارة ردود فعل إقليمية ودولية معادية، وإطالة أمد الحرب. على المجتمع الدولي أن يعمل على تكثيف جهود الوساطة لإنهاء الصراع، مع الضغط على الأطراف الخارجية، بما في ذلك إيران، لوقف التدخلات التي تؤجج النزاع. أما بالنسبة للسودانيين، فإن الحل يكمن في التوصل إلى تسوية سياسية شاملة تضع مصلحة الشعب فوق المصالح الضيقة للأطراف المتحاربة والقوى الخارجية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبد الله حمدوك: رجل الإصلاح والأمل في سودان جديد

عبد الله حمدوك: رجل الاقتصاد والانتقال الديمقراطي في السودان

Abdalla Hamdok: A Legacy of Resilience and Reform in Sudan